الاقتصاد الفرنسي في مأزق تاريخي… الديون تتضخم والحكومة تسقط

الاقتصاد الفرنسي في مأزق تاريخي… الديون تتضخم والحكومة تسقط

 

 

لم تحدث المفاجأة وسقطت حكومة فرنسوا بايرو في فرنسا كما كان متوقعاً بعد فشلها في الحصول على ثقة البرلمان بتصويت 364 نائباً ضدها مقابل 194 مؤيداً لها.

وقال رئيس الوزراء الفرنسي خلال جلسة حجب الثقة إن "مستقبل فرنسا على المحك بسبب ديونها المفرطة... وإن فرنسا تزداد فقراً كل عام"، مضيفاً "بإمكانكم إطاحة الحكومة، لكن لا يمكنكم محو واقع الرزح تحت عبء الدين".

بذلك تقترب فرنسا من الغرق مجدداً في حال من عدم اليقين، ويرجح أن تكون العواقب على اقتصاد البلاد متعددة، ويبقى عدم الاستقرار السياسي الدابة السوداء للاقتصاد الفرنسي. وورد سحب الثقة إثر محاولة بايرو تمرير خطة لتخفيض إنفاق مثيرة للجدل، إذ اقترح خفض موازنة النفقات العمومية بـ44 مليار يورو (51.92 مليار دولار) وهي الموازنة الأعلى في أوروبا ورفع الضرائب، إضافة إلى الحد من بعض المزايا الاجتماعية. في وقت تسببت فيه الضرائب على الشركات والأثرياء في تراجع الإيرادات من 54 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي إلى 51 في المئة.

الدين تجاوز عتبة 4029 مليار دولار

تعهدت الحكومة بتخفيض العجز العام في موازنتها إلى ما دون ثلاثة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول 2027 لتجاوز توبيخ الاتحاد الأوروبي لخرقها قواعد الموازنة المتبعة، وهي ألا يتجاوز دين الدولة 60 في المئة من الناتج الوطني، وألا يتجاوز العجز العام نسبة ثلاثة في المئة.

في حين بلغ عجز الموازنة الفرنسية 142 مليار يورو (166.14 مليار دولار) بنهاية يوليو (تموز) الماضي، مقارنة بـ156.9 مليار يورو (183.5 مليار دولار) في الشهر نفسه من عام 2024.

وفي العام الماضي وصل العجز العام إلى 5.8 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، ومع مطلع العام الحالي قررت الحكومة منع العجز من تجاوز 5.4 في المئة.

وأعلن فرنسوا بايرو الرقم الجديد للدين العام الفرنسي خلال خطابه الأخير في الثامن من سبتمبر (أيلول) الجاري أمام النواب، وقال إنه وصل إلى 3415 مليار يورو (4029.7 مليار دولار) أي ما يقارب 120 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.

وعلى صعيد الديون، يهدد سقوط حكومة بايرو بخفض التصنيف السيادي لفرنسا، ويقيم هذا المؤشر بقدرة الدولة واستعدادها للوفاء بالتزاماتها بالعملة الأجنبية. ومن المتوقع أن تصدر وكالة "فيتش" للتصنيف الائتماني قرارها في شأن هذه المسألة الجمعة الـ12 من سبتمبر الجاري.

قبل عام واحد بالضبط، أبقت الوكالة تصنيف فرنسا عند "AA-"، مهددة بخفض إضافي إلى "A+" إذا "عجزت فرنسا عن تنفيذ خطة موثوقة لضبط المالية العامة على المدى المتوسط" وفق تقدير الوكالة.

وقد تكون العواقب وخيمة على البلاد إذ سيؤدي خفض التصنيف السيادي إلى انعدام ثقة المستثمرين وزيادة عبء الدين.

وقدر مكتب التوقعات الاقتصادية الفرنسي (OFCE) العام الماضي أن حل الجمعية الوطنية (البرلمان) وسقوط حكومة بارنييه كلفا فرنسا ما يقارب 12 مليار يورو (14.6 مليار دولار)، ويمثل هذا "ما بين 0.3 و0.4 نقطة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي"، لكن لا أحد قادر على توقع كلفة سقوط حكومة بايرو، وقال الاقتصادي ماتيو بلان "في الوقت الحالي، لا أحد يستطيع التنبؤ بالآثار الاقتصادية الكلية" لسقوط حكومة بايرو، ما من شأنه أن يغرق فرنسا في حال من عدم اليقين.

وذكر المستشار الاقتصادي في شركة "أوريل بي جي سي" الاستشارية، كريستيان باريسو، "عدم الاستقرار هو أحد العوامل التي تضعف الرؤية. ولذلك، فهو أمر له تأثير سلبي في النمو".

الدليل على ذلك هو حل الحكومة في يونيو (حزيران) 2024، والصيف الذي تلاه دون رئيس وزراء جديد، وفترة ميشيل بارنييه القصيرة في ماتينيون، والتي كان لها بالفعل تأثير كبير في الاقتصاد الفرنسي.

وأشارت مديرة قسم البيانات والأبحاث في رابطة توظيف الكوادر (Apec)، هيلين غارنر، إلى "انخفاض في نيات التوظيف" بنحو 13 في المئة "للشركات المتوسطة والكبرى".

مزيد من الادخار ونمو أقل

كان لهذا الغموض تأثير خطر في معنويات الأسر، مما دفعها إلى الادخار، ويأتي هذا في ظل بلوغ معدلات الادخار مستويات قياسية بـ18.9 في المئة من الدخل المتاح، وهذا لا يكفي لتعزيز توقعات النمو في البلاد.

يعلق ماتيو بلان قائلاً "الخطر يكمن في عدم تحقيق نمو أو انخفاض في العجز". في تقرير نشر في يونيو الماضي، خفضت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) توقعاتها لنمو فرنسا عام 2025 إلى 0.6 في المئة، وهو تباطؤ مقارنة بالعام السابق 1.1 في المئة.

وتوقعت المنظمة "زيادة في حال عدم اليقين" وتجدد "التوترات التجارية"، أما عام 2026، فقد يتأثر "انتعاش" الاقتصاد المرتقب بشدة، إذ يقدر النمو بنسبة 1.1 في المئة لعام 2026، لكن هذا لا يأخذ في الاعتبار "كلفة عدم اليقين"، لذلك، قد تضطر باريس إلى مراجعة خططها.

وفقاً لبيانات مكتب العمل الدولي، يبلغ معدل البطالة في فرنسا 7.5 في المئة في الربع الثاني من عام 2025، ويمثل هذا 2.4 مليون عاطل عن العمل في فرنسا، بزيادة قدرها 29 ألف شخص خلال الربع.

 

وسجل المعهد الوطني للإحصاءات والدراسات الاقتصادية تراجعاً في معنويات رواد الأعمال الفرنسيين منذ يونيو الماضي، فإضافة إلى التعامل مع سياق عالمي غير موات، اضطرت الشركات إلى التعامل مع حال عدم اليقين المالي المتأصلة في هذه الفترات السياسية المضطربة، وكان لذلك أيضاً عواقب اقتصادية جسيمة.

يوضح المتخصص كريستيان باريسو "على سبيل المثال، إذا أعلنت بعض الأحزاب رغبتها في زيادة ضرائب العمل، فقد يؤثر ذلك في خطط التوظيف". وربما أجلت الاستثمارات أو ألغيت أيضاً بسبب عدم اليقين في شأن القواعد التي ستخضع لها، ونظراً إلى هذه الشكوك السياسية، انخفض الاستثمار في فرنسا.

تجدر الإشارة إلى أن مكتب إحصاءات العمل (OFCE) يعتبر أن هذه الاستثمارات المؤجلة هي التي كان لها التأثير السلبي الأكبر خلال هذه الفترة.

وأخيراً، في ظل حال عدم اليقين، "طالب المستثمرون بعلاوة مخاطرة إضافية لإقراض الدولة"، كما يتابع الاقتصادي، وبمعنى آخر، ارتفعت أسعار الفائدة على الديون الفرنسية، لا سيما عندما عجز البرلمان عن إقرار الموازنة في الموعد المحدد، ومن ثم ازداد عبء الدين.

وكان المستثمرون رفعوا العائد على السندات الذي يطالبون به فرنسا عندما أعلن فرنسوا بايرو خضوعه لتصويت الثقة، وسيؤدي هذا إلى إطالة فترة عدم اليقين المالي والتنظيمي الذي تعانيه الشركات، ويرفع أسعار العائد على السندات الفرنسية.

المحلل والأكاديمي بجامعة السوربون مارك تواتي وصف المؤشرات بالركود الخفي وقال "باستثناء المخزونات، انخفض الناتج المحلي الإجمالي الفرنسي بنسبة 0.9 في المئة خلال الربعين الأولين. وتراجع الاستثمار بـ4.1 في المئة في العام ونصف العام المنقضيين.

وانخفضت ثقة الأسر وبلغت أدنى مستوياتها، وهي أقل مما كانت عليه خلال جائحة ’كوفيد-19‘ أو احتجاجات السترات الصفراء، بينما تسير توقعات البطالة إلى تسعة في المئة بنهاية عامي 2025 و2026".

وأحدث مجرد الإعلان عن تصويت سحب الثقة توترات في الأسواق المالية، وارتفع العائد على السندات الطويلة الأمد لـ10 أعوام إلى 3.51 في المئة، مما وسع الفجوة مع ألمانيا بـ2.73 في المئة إلى 80 نقطة أساس، وهو مستوى مقلق يضع فرنسا في صدارة منطقة اليورو، متقدمة على إيطاليا واليونان والبرتغال، وهي حالياً الأضعف مالياً بمنطقة اليورو.

يرافق هذا التدهور انخفاض مؤشر بورصة باريس CAC 40 بـ3.5 في المئة في غضون أيام قليلة، بينما يتجه المستثمرون إلى الملاذات الآمنة مثل الذهب، الذي يحافظ على استقراره عند 3377 دولاراً للأونصة.

استفادة الدولار

مع سحب الثقة، ستدخل فرنسا في أزمة سياسية كبرى، مع الحاجة إلى تعيين رئيس وزراء جديد أو إجراء انتخابات تشريعية جديدة، وتفاقم الركود الاقتصادي القائم، وارتفاع العائد على السندات الفرنسية ما قد يصل إلى أربعة في المئة أو 4.5 في المئة، مع خطر انتشار العدوى في جميع أنحاء منطقة اليورو.

ويؤدي الاضطراب السياسي المطول إلى إضعاف الجاذبية الاقتصادية للبلاد، بينما يمثل التضخم الأميركي سبباً آخر للقلق، ففي الوقت نفسه تواجه الولايات المتحدة عودة للتضخم بـ2.7 في المئة على أساس سنوي، و23.5 في المئة منذ يناير (كانون الثاني) 2021، مما يعقد مهمة مجلس الاحتياطي الفيدرالي، الذي يفكر في خفض أسعار الفائدة تحت ضغط إدارة ترمب. قد يفيد هذا الوضع الدولار مقابل اليورو الذي أضعفته الأزمة الفرنسية، مما يفاقم الاختلالات الاقتصادية العالمية.

عن اندبندنت عربية

 بقلم  انتصار عنتر

 

Image